کد مطلب:239499 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:133

ملاحظات هامة
هذا .. و قبل الخوض فی تفصیل أسباب البیعة، لابد من ملاحظة :

أ - : ان من الطبیعی أن یثیر تصرفه هذا حفیظة العباسیین، الذین ناصبوه العداء، و شجعوا أخاه الأمین علیه، و لسوف یزید من حنقهم، و غضبهم : حتی انهم رضوا بابراهیم بن شكلة المغنی خلیفة علیهم، عندما سمعوا بهذا النبأ الذی كان له وقع الصاعقة علیهم ..

كما أن من الطبیعی أن یثیر دهشتهم، و یذهلهم .. بعد أن لم یكن



[ صفحه 206]



بینهم رجالات كفاة، یدركون ألاعیب السیاسة، و دهاء و مكر الرجال .

و قد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخلیفة الذی اختاروه، و استعاضوا به عن المأمون .. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسیین :



فلا جزیت بنوالعباس خیرا

علی رغمی و لا اغتبطت بری



أتونی مهطعین ، و قد أتاهم

بوار الدهر بالخبر الجلی



و قد ذهل الحواضن عن بنیها

و صد الثدی عن فم الصبی



و حل عصائب الاملاك منها

فشدت فی رقاب بنی علی



فضجت أن تشد علی رؤوس

تطالبها بمیراث النبی [1] .

ب - : و لكن دهشتهم و غضبهم لا قیمة لهما، فی جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلیة، و سفك دمائهم .. و قد أوضح لهم ذلك فی رسالة منه الیهم، حیث قال : « .. و أما ما كنت أردته من البیعة لعلی بن موسی، بعد استحقاق منه لها فی نفسه، فما كان ذلك منی الا أن اكون الحاقن لدمائكم، و الذائد عنكم، باستدامة المودة بیننا و بینهم .. » . و الرسالة مذكورة فی أواخر هذا الكتاب.

و قریب من ذلك ما جاء فی وثیقة العهد، مخاطبا « أهل بیت أمیرالمؤمنین » حیث قال لهم : « .. راجین عائدته فی ذلك ( أی فی البیعة للرضا علیه السلام ) فی جمع الفتكم، و حقن دمائكم، و لم شعثكم، و سد ثغوركم .. »

فلیغضبوا اذن قلیلا، فانهم سوف یفرحون فی نهایة الأمر كثیرا، و ذلك عندما یعرفون الاهداف الحقیقیة، التی كانت تكمن وراء تلك اللعبة، و أنها لم تكن الا من أجل الابقاء علیهم، و استمرار وجودهم



[ صفحه 207]



فی الحكم، و القضاء علی اخطر خصومهم، الذین لن یكون الصدام المسلح معهم فی صالحهم .

انهم دون شك عندما تؤتی تلك اللعبة ثمارها سوف یشكرونه، و یعترفون له بالجمیل، و یعتبرون أنفسهم مدینین له مدی الحیاة . و لسوف یذكرون دائما قوله لهم فی رسالته المشار الیها آنفا : « .. فان تزعموا أنی أردت أن یؤول الیهم ( یعنی للعلویین ) عاقبة و منفعة، فانی فی تدبیركم، و النظر لكم، و لعقبكم . و لابنائكم من بعدكم .. » ..

و مضمون هذه العبارة بعینه - تقریبا - قد جاء فی وثیقة العهد، حیث قال فیها، موجها كلامه للعباسیین، رجاء أن یلتفتوا لما یرمی الیه من لعبته تلك .. فبعد أن طلب منهم بیعة منشرحة لها صدورهم - قال - : « .. عالمین بما أراد أمیرالمؤمنین بها، و آثر طاعة الله، و النظر لنفسه، و لكم فیها، شاكرین الله علی ما الهم أمیرالمؤمنین، من قضاء حقه فی رعایتكم، و حرصه علی رشدكم، و صلاحكم، راجین عائدته فی ذلك فی جمع الفتكم، و حقن دمائكم الخ. ما قدمناه .. » .

لا شك أنه اذا غضب علیه العباسیون ؛ فانه یقدر علی ارضائهم فی المستقبل، « و قد حدث ذلك بالفعل »، عندما یطلعهم علی حقیقة نوایاه، و مخططاته، و أهدافه، و لكنه اذا خسر مركزه، و خلافته، فانه لا یستطیع - فیما بعد - أن یستعیدها بسهولة، أو أن یعتاض عنها بشی ء ذی بال ..

ج - : ان من الانصاف هنا أن نقول : ان اختیار المأمون للرضا (ع) ولیا للعهد ، كان اختیارا موفقا للغایة، كما سیتضح، و انه لخیر دلیل علی حنكته و دهائه السیاسی، و ادراكه للأسباب الحقیقیة للمشاكل التی كان یواجهها المأمون، و یعانی منها ما یعانی ..

د - : ان من الامور الجدیرة بالملاحظة هنا هو أن اختیار المأمون



[ صفحه 208]



لولی عهده، الذی لم یقبل الا بعد التهدید بالقتل .. كان ینطوی فی بادی ء الرأی علی مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء و السیاسة، اذا ما أخذت مكانة الامام (ع)، و نفوذه بنظر الاعتبار، سیما مع ملاحظة : أنه هو الذی كان یشكل أكبر مصدر للخطر علی المأمون، و نظام حكمه ؛ حیث انه كان یحظی بالاحترام و التقدیر، و التأیید الواسع فی مختلف الفئات و الطبقات فی الامة الاسلامیة .

و لكننا اذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم یقدم علی اختیار الامام ولیا للعهد، الا و هو علی ثقة من استمرار الخلافة فی بنی أبیه ؛ حیث كان الامام (ع) یكبره ب »22« سنة ؛ و علیه فجعل ولایة العهد لرجل بینه ، و بین الخلیفة الفعلی هذا الفارق الكبیر بالسن، لم یكن یشكل خطرا علی الخلافة ؛ اذ لم یكن من المعروف، و لا المألوف أن یعیش ولی العهد - و هو بهذه السن المتقدمة - لو فرض سلامته من الدسائس و المؤامرات !! .. الی ما بعد الخلیفة الفعلی، فان ذلك من الامور التی یبعد احتمالها جدا ..

ه - : و لهذا .. و لأن ما أقدم علیه لم یكن منتظرا من مثله، و هو الذی قتل أخاه من أجل الخلافة و الملك، و لأنه من تلك السلالة المعادیة لأهل البیت علیهم السلام .. احتاج المأمون الی أن یثبت صدقه، و اخلاصه فیما أقدم علیه، و أن یقنع الناس بصفاء نیته، و سلامة طویته .. فأقدم لذلك .. علی عدة أعمال:

فأولا : أقدم علی نزع السواد شعار العباسیین، و لبس الخضرة شعار العلویین و كان یقول : انه لباس أهل الجنة [2] حتی اذا ما انتهی دور هذه الظاهرة بوفاة الامام الرضا (ع)، و تمكنه هو من دخول بغداد



[ صفحه 209]



عاد الی لبس السواد شعار العباسیین، بعد ثمانیة أیام فقط من وصوله، علی حد قول أكثر المؤرخین، و قیل : بل بقی ثلاثة أشهر .. نزع الخضرة رغم أن العباسیین، تابعوه، و أطاعوه فی لبسها، و جعلوا یحرقون كل ملبوس یرونه من السواد، علی ما صرح به فی مآثر الأناقة، و البدایة و النهایة، و غیر ذلك.

و ثانیا : و لنفس السبب [3] أیضا نراه قد ضرب النقود باسم الامام الرضا (ع) .

و ثالثا : أقدم للسبب نفسه علی تزویج الامام الرضا (ع) ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفیدة له، حیث كان یكبرها الامام (ع) بحوالی أربعین سنة . كما أنه زوج ابنته الاخری للامام الجواد (ع)، الذی كان لا یزال صغیرا، أی ابن سبع سنین. [4] .

و من یدری : فلعله كان یهدف من تزویجها أیضا الی أن یجعل علیها رقابة داخلیة . و أن یمهد السبیل، لكی تكون الأداة الفعالة، التی



[ صفحه 210]



یستعملها فی القضاء علی الامام (ع) . كما كان الحال بالنسبة لولده الامام الجواد، الذی قتل بالسم الذی دسته الیه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم [5] ؛ فیكون بذلك قد أصاب عدة عصافیر بحجر واحد .. كما یقولون .. و یجب أن نتذكر هنا : أن المأمون كان قد حاول أن یلعب نفس هذه اللعبة مع وزیرة الفضل بن سهل ؛ فألح علیه أن یزوجه ابنته فرفض، و كان الرأی العام معه، فلم یستطع المأمون أن یفعل شیئا، كما سنشیر الیه .. لكن الامام (ع) لم یكن له الی الرفض سبیل، و لم یكن یستطیع أن یصرح بمجبوریته علی مثل هكذا زواج؛ لأن الرأی العام لا یقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سببا فی تقلیل ثقة الناس بالامام، حیث یرون حینئذ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التی تجاوزت - بنظرهم حینئذ - كل الحدود المألوفة و المعروفة.

و علی كل حال : فان كل الشواهد و الدلائل تشیر الی أن زواج الامام من ابنة المأمون كان سیاسیا، مفروضا الی حد ما .. كما أننا لا نستبعد أن یكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سیاسیا أیضا، حیث أراد بذلك أن یوثق علاقاته مع الایرانیین، و یجعلهم یطمئنون الیه، خصوصا بعد عودته الی بغداد ، و تركه مروا، و لیبری ء نفسه من دم الفضل بن سهل، و یكتسب ثقة أخیه الحسن بن سهل، المعروف بثرائه و نفوذه ..

و رابعا : و للسبب نفسه أیضا كان یظهر الاحترام و التجلیل للامام (ع) - و ان كان یضیق علیه فی الباطن [6] - و كذلك كانت الحال بالنسبة لاكرامه



[ صفحه 211]



للعلویین، حیث قد صرح هو نفسه بأن اكرامه لهم ما كان الا سیاسة منه و دهاء ، و من أجل الوصول الی أهداف سیاسیة معینة ؛ فقد قال فی رسالته للعباسیین، المذكورة فی أواخر هذا الكتاب : « .. و أما ما كنت أردته من البیعة لعلی بن موسی ... فما كان ذلك منی، الا أن اكون الحاقن لدمائكم، و الذائد عنكم ؛ باستدامة المودة بیننا و بینهم . و هی الطریق أسلكها فی اكرام آل أبی طالب ، و مواساتهم فی الفی ء، بیسیر ما یصیبهم منه .. » .

و یذكرنی قول المأمون : « و مواساتهم فی الفی ء الخ .. » بقول ابراهیم بن العباس الصولی - و هو كاتب القوم و عاملهم - فی الرضا عندما قربه المأمون:



یمن علیكم بأموالكم

و تعطون من مئة واحدا



و - : ان المأمون - و لا شك - كان یعلم : أن ذلك كله - حتی البیعة للامام - لا یضره ما دام مصمما علی التخلص من ولی عهده هذا بأسالیبه الخاصة . بعد أن ینفذ ما تبقی من خطته الطویلة الأجل، للحط من الامام قلیلا قلیلا ، حتی یصوره للرعیة بصورة من لا یستحق لهذا الأمر - كما صرح هو نفسه [7] ، و كما صرح بذلك أیضا عبدالله بن موسی فی رسالته الی المأمون، و التی سوف نوردها فی أواخر هذا



[ صفحه 212]



الكتاب ان شاء اله ؛ حیث یقول له فیها : « .. و كنت الطف حیلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، و التستر لمحننا، تختل واحدا فواحدا منا الخ ... » [8] .

الی غیر ذلك من الشواهد و الدلائل، التی لا تكاد تخفی علی أی باحث، أو متتبع..


[1] التنبيه و الاشراف ص 303 . و الولاة و القضاة للكندي ص 168.

[2] الامام الرضا ولي عهد المأمون ص 62 عن ابن الأثير.

[3] التربية الدينية ص 100.

[4] راجع مروج الذهب ج 441 / 3 ، و غيره من كتب التاريخ . و في الطبري ج 1103 / 11، طبع ليدن ، و البداية و النهاية ج 269 / 10 : أنه (ع) لم يدخل بها الا في سنة 215 للهجرة، و لكن يظهر من اليعقوبي ج 454 / 2 ط صادر : أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله الي بغداد، و أمر له بألفي ألف درهم، و قال : اني أحببت أن أكون جدا لامري، ولده رسول الله، و علي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهي . و هذا يدل علي أنه قد بادر الي تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضا (ع) ليبري ء نفسه من الاتهام بقتل الرضا (ع) ؛ حيث ان الناس كانوا مقتنعين تقريبا بذلك و مطمئنين اليه، و سيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف و ملابسات وفاته (ع) .

و يلاحظ : أن كلمة المأمون هذه تشبه الي حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر اصراره غير الطبيعي علي الزواج بام كلثوم بنت علي (ع)، حتي لقد استعمل اسلوبا غير مألوف في التهديد و الوعيد من أجل الوصول الي ما يريد.

[5] و لعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، و ما جري له مع الامام الحسن السبط عليه السلام.

[6] و قد سبقه الي مثل ذلك سليمان عم الرشيد ، عندما أرسل غلمانه ؛ فأخذوا جنازة الكاظم عليه السلام من غلمان الرشيد، و طردوهم . ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه ؛ فمدحه الرشيد، و اعتذر اليه، و لام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب علي ما أقدم عليه من ردة فعل لدي الشيعة، و محبي أهل البيت عليهم السلام، و الذين قد لا يكون للرشيد القدرة علي مواجهتهم .

و تبعه أيضا المتوكل ؛ حيث جاء بالامام الهادي عليه السلام الي سامراء ؛ فكان يكرمه في ظاهر الحال ؛ و يبغي له الغوائل في باطن الأمر ؛ فلم يقدره الله عليه .. علي ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 226، و المجلسي في البحار ج 203 / 50، و المفيد في الارشاد ص 314.

[7] سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، و خططه بنوع من التفصيل ان شاء الله تعالي.

[8] مقاتل الطالبيين ص 629.